29‏/1‏/2013

محطات من التجربة السياسية : تجليات وأبعاد

 د/ المحجوب النعمة *
كان ولازال لبعض المحطات في التجربة السياسية  الوطنية أثر بالغ و دلالات عميقة  لما نحن نتخبط فيه اليوم من المشاكل التننظيمية  على وجه الخصوص، وما لذلك من انعكاسات سلبية على مستقبلنا السياسي  ..ولقد أثير خلال مسيرتنا النضالية جدل واسع لدى العديد من المهتمين لتصوير المعالم السياسية لمراحل بذاتها كمحاولات نقدية تروم تشخيص مناحي عجز وقصورالتنظيم السياسي ـ وهي مواضيع متداخلة وشائكة ـ وذلك بغية الإجابة عن بعض التساؤلات و الإشكالات الراهنة وفي سبيل صقل التجربة وتحصينها من شتى الإختلالات والإنحرافات الممكنة...
عموما يشي المرحلة الراهنة الكثيرمن الفوضى السياسية  :
ـ خلط  للمفاهيم وضبابية في الرؤى وغياب للتحليل العلمي ..مما جعل الكثير من مواقفنا الرسمية مقيدة بدواع مخجلة، تتستر وتلتف تحت عباءة الظرف الإستثنائي وذرائع  أخرى مماثلة، تنتظر حدوث المعجزة التي تتتشكل وتتحدد  في الغالب عبر ما يمليه  الآخر لا ما نمليه  نحن  ..فكنا في العديد من المسارات منجرين وراء الأحداث والطوارئ هنا وهناك لنعود الى سباتنا العميق ننتظر ، نترقب ، نرتجل ، نتسلى .. وأحيانا يطول بنا الإنتظار فنوهم النفس بنجاحات باهرة .. فنحتمي وراء تقاليدنا السياسية  المشبعة بطقوس القبيلة وهوس التملك والسلطة ..لا يزال العمق مفقودا، كما لازالت سياسة اللف والإلتواء معتمدة. فالمضامين السياسية رؤى وتصورات مجردة ، ولا ترقى إلى مستوى الفعل المنظم . شعارات مغرقة في غوغائية مطلقة .. بحث مستميت عن امتيازات هنا وهناك ، كثير من الجلبة وقليل من العطاء!! لقد أصبح للمرحلة فرسانها بعدما خفت دوي المدافع ..وكثر منظروا الحقبة الجديدة ممن يجيدون لعبة الغزل السياسي ويقبلون بالترضيات إرضاء لخواطرهم الرهيفة كممثلين لبعض ألوان المربع السياسي  في ظل عهدة السلام الأممي الذي سيجلب لنا المنافع!!  ولا أروم تعميم هذا التقييم  وسحبه على كامل  التجربة  لأنه في الواقع جاء ليؤطر المرحلة الحالية من مسارنا النضالي ..لأن المراحل الأولى للثورة اتسمت بالفرادة والتميز والنبل والعطاء وفي أجل الصور.. وليست المحاولة تقيما لتجربتنا الوطنية ؛ لأن للتقييم شروطه من تجميع للمعطيات ورصد للظواهر وابراز لعناصر السلب والإيجاب ، وبمشاركة جماعية وعبر تصورشمولي مؤسس موضوعيا على منهج علمي ...الخ لكن المشاركة تدخل في سياق الإسهام في خرق جدار الصمت والتعتيم والتمويه الذي يلف العمل الصحراوي في الكثير من المناحي التنظيمية السياسية . لنقل انها محاولة نقدية تلامس بعض الجوانب المعيقة لمسارنا النضالي نعري فيها بعض مما هو مسكوت عنه من تراكمات؛ كونها مجسد بين لبعض ما نعانيه  اليوم من تعثرات وانحرافات ،وتمثيل  واقعي لمجموعة من الأدواء التي تنخر راهنا التجربة التنظيمية.... 
1 ـ المحطة  الأولى  الأساس :
لقد شكل تأسيس الجبهة الشعبية و انطلاق الكفاح المسلح سنة1973 المحطة الأبرز في تاريخ  شعبنا .... كان الحدث جبارا ومثل منعطفـا  تاريخيا في مسيرتنا النضالية و كان الأساس لبلورة تصور مستقبلي لبناء المجتمع الحداثي البديل على أنقاض المجتمع التقليدي وذلك في أفق ترصيص اللبنة الأولى لبناء الدولة الصحراوية المستقلة . وطبيعي ،  كانت النشأة عسيرة أشبه ماتكون بالولادة الفيصرية في ظل صراع محموم بين عقليتين: تقليدية بائدة ،وأخرى تطمح للسيادة بأفكارجديدة وأنماط معينة من التعامل والسلوكات .هذا الوضع فرض وافعا خاصا ومواجهات بين شد وجذب اتسمت في بعض المراحل بالحدة .. أمام هذا الواقع وجد التنظيم نفسه أمام خصمين في آن : الإستعمار وأعوانه ،ومجتمع محافظ  في طور الحداثة والنشوء يترصد خطاه نحو مستقبل محفوف بالمخاطر حيث يشع في الأفق بصيص من الأمل والحضور..وقد تم في النهاية حسم الموقف على المستوى الذاتي  بتخفيف وطأة التصادم و ترويض عقلية المجتمع وتأطيرها للتفاعل مع هذا المعطى الجديد بوصفه البديل الموضوعي الضامن للشعب أصالته والمتساوق مع تطلعاته نحو التحرر والإنطلاق..  وذلك رغم تكالب المؤامرات ومحدودية الإمكانيات و الكثيرمن المآخذ... كما استطاع التنظيم السياسي أن يخلق معظم الشروط  الكفيلة ببناء المجتمع/الحلم ، وأن يلف حول مشروعه السياسي جماهير عريضة ،وأن يرغم الغزاة على الإعتراف بوجود مفاومة صحراوية يصعب تجاهلها ؛ بل وأن يقنع المجتمع الدولي بعدالة القضية...وتواترت أحداث عظمى على مر التجربة..فسجل شعبنا انتصارات كبرى وجنى استحقاقات  ومكاسب قوية  تضاهي في قوتها وعظمتها قدر ماقدم من تضحيات وماكابد من معاناة ...
2 ـ الدولة الصحراوية النموذج : بين آليات العمل وتداخل المفاهيم .
لم يكن قيام الجمهورية الصحراوية الا التجسيد الفعلي والملموس الإسهام جماهيرنا في معترك النضال وتتويجا لمرحلة حافلة من البذل والعطاء ،مرحلة كان نكران الذات عنوانها الأبرز وملحمة سمتها التضحية التي يتسامى فيها الأفراد نحو الشهادة غير آبهين بزخرف الحياة وملاذها ولابظلال السلطة وهباتها ومرائها ..قدم شعبنا قوافل الشهداء ومئات المعتقلين وتحمل كل صنوف القهر والمعاناة والإذلال وعانى الشتات والتقسيم والمنافي  ولم تفتر عزيمة المقاومة ولم تخفت جذوة النضال .وكان لابد أن  تدفع ضريبة الكرامة وصون الوطن لتكون عربونا على التمسك بالمبدإ وبالقناعة النابعة من صدقية القضية وقدسيتها فحظي شعبنا باحترام الشعوب المحبة للعدل والسلام ....لقد مر شعبنا من أحداث عصيبة واستطاع أن يخترق الحجب الظلامية ويكسر الأصفاد التي تروم كبح جموحه نحو الخلاص من ربقة الإستعماروالإستعباد والإذلال ..واليوم يقف أمام تحديات كبرى تستوجب اليقظة وتكافل كل الجهود وفاء لتضحيات شهدائنا ....ولقد شكلت ملحمة أكديم إزيك حاليا الحدث الأبرز الذي يؤرخ لمعالم مرحلة العمل المستقبلي وطرائق النضال مرحلة فاصلة تقطع الصلة مع كل نواقص الماضي وتؤشر لدخول شعبنا بالمناطق المحتلة في المعركة كمعادلة صعبة تؤرق مضاجع العديد من الدوائر النافذة وبالاخص العدو المغربي، كما تعيد الحسابات في التعامل معها كظاهرة فريدة  كان لها السبق في تأريخ ما يصطلح عليه اليوم " الربيع العربي" والذي توج بانطلاقة صحراوية...نقلت للعالم رسائل التحدي ورسمت حدود المواجهة وأشكالها ودرجة التنظيم  والإنتظام  فألغت  تلك القيود الإجتماعية المعيقة للفعل الثوري بانصهارها كلية في صلب المعركة دون اعتبار لحسبات ظرفية أوتوازنات عرقية أوخصوصية جهوية . لقد تماهت كل الألوان في لون وطني واحد لا يقيم توازناته على قوالب جامدة تمتح من  طقوس الماضي  وأعرافه ولكم تجاوب الشعب تلقائيا مع هذه الحركة النضالية ولازال صداها الملعلع يصدح في الأرجاء  .
إن الأحداث في مسيرة شعبنا حافلة بالدروس والعبر. وهناك محطات بذاتها في أمس الحاجة إلى تقويم ثوري يلغي من حساباته سياسة تلك الحلقات الفارغة والمناسبات المنسوخة  التي تتعلق بتلابيب الماضي ولاتمجد منه الا ما يخدم المصالح الضيقة لبعض النافذين من ذوي القرارالسياسي!  ولايتم ذلك التقويم إلا من خلال نفد موضوعي ومسؤول ينفذ إلى العمق ويكشف الخلفيات الكامنة وراء تلك المسلكيات الخاطئة التي تحاول الجهات حجبها والتستر علىانعكاساتها و وتداعياتها السلبية ؛ والتي شكلت ـ كمحصلة ـ عوامل معيقة للعمل الثوري ، ترتب عنها إصابة التنظيم السياسي بشلل شبه تام والذي ظل عمله ـ في السنوات الأخيرة ـ مطبوعا بالشكليةوالرسميات مقيما الوزن في الغالب لإعتبارات يتتأفف منها المناضلون ويتندر بها الخاص والعام !! وذلك لانه ببساطة يتعارض مع مبادئ الحركة ويعيد نسخ وقولبة النماذج التقليدية و المنبوذة من القاعدة  بشكل مموه و يعيد صياغتها من جديد وفق آليات مبتكرة ومستوحاة من خزانتنا التقليدية.. هو ذات ذات النسق  الذي سيكبل  و يعيق في المستقبل  تطلعات شعبنا نحو مجتمع ديموقراطي تسوده العدالة ويحكمه القانون ..
3 ـ العد التنازلي : أدوات وبرامج
إن الأدوات العاملة ميدانيا ليست معطى ثابتا لا يمكن الإستغناء عنه ، فلقد أبانت التجربة أن هناك الكثير من العناصرظلت تشغل مواقع حساسة رغم ضعفها أو محدودية عطائها وقلة معرفتهاولربما حتى إخلاص البعض منها؛ ورغم ذلك ظل النظام متشبثا بها خاضعا لإبتزازها السياسي بالتلويح بورقة القبيلة كمطية للمساومة ،واعتبارات أخرللمزايدة .. لكن حين تفقد امتيازاتها وكراسيها تسقط في حبائل العدو وتمارس دورها الإرتزاقي لديه وهناك عدة أمثلة ..إن مايحافظ عليه هو الثبات على المبدإ أيا كانت مواقع العمل أو "اللاعمل"!...ولقد انعكس ذلك التعامل سلبا وعلى الكثير من المستويات والميادين وبدأنا نشهد تراجعات متلاحقة.!!
فمكاسبنا الديبلوماسية مثلا لا يمكن ابتسارها؛ ورغم ذلك تبقى بحجم مازج به في هذا الميدان تتسم بالضآلة بل تكاد تخبو بعدما انحسرت الإعترافات الدولية اللهم ماجد على الساحة الأوربية مؤخرا وهو بالغ الأهمية .لكنه في ظل تجميد بعض الإعترافات يستوجب منا وقفة مع الذات لوضع حد لهذا العد التنازلي. كيف يمكن تفعيل الأداة الديبلوماسية حتى تتناغم  مع مستجدات الساحة بما يقتضيه ذلك من متطلبات مادية وبشرية وعلى أساس استرايجية محددة الأهداف والأبعاد ؟ ما أسباب النكسة او الكبوة الديبلوماسية رغم "تجديد "الأدوات"؟أم أننا نتحين الصدف؟ كيف يمكن استغلال المنابر والوسائط الإعلامية لإكتساح الساحة الدولية؟ أسئلة كثيرة....نحتاج لمساءلة الواقع ومراجعة شاملة لأساليب العمل وعلى كل الواجهات ومثل هذا التقييم  يجب أن يكون سلوكا تنظيميا ملازما لا شكليا،  تتاح فيه الفرصة للمناضلين الخلص للإدلاء بآرائهم وأن يقحم في المعترك كل من يهمه الدفع بالتجربة الصحراوية إلى الأمام ويروم صقلها من الشوائب وأن لا تتقتصر المشاركة على ذوي الحظوة والجاه والتابع والمتبوع .. وأن لا نتجنى في حق المناضلين عن طريق التهميش والإقصاء لكل من جهر بصوته يروم الإصلاح ومن صلب الحركة ،وألا ننحي باللائمة على الآخر بإلصاق التهم المجانية وأساليب التدليس ؛ إذ لا برهان يحتكم له وبموضوعية غير عطاءات الأفراد عبر ماضيهم وحاضرهم السياسي لا عبرالمزايدات والحذلقة السياسية. يمكن القول على هذا الأساس بأن هناك ردة مجسدة من خلال مسار تراجعي متلاحق اللبنات وممنهج لإفراغ الثورة من مضمونها النضالي وتأطير المرحلة بالشعارات الثوروية   ...إن الظرفية التي تجتازها قضيتنا اليوم تقتضي تغييرا في المناهج وأساليب  العمل وآلية جديدة للتوجيه والتأطير السياسي أوبالأحرى التربية السياسية عموما...إن خلق مثل هذا المناخ يجعلنا في مواجهة مباشرة مع الذات كما يفرض علينا إعادة النظر في بعض المفاهيم السطحية باعادة صياغتها بما يتناسب مع مستوى تطور الذهنية الصحراوية راهنا والتي باتت تطمح إلى التغيير بعدما أعياها غي بعض السياسة خاصة ممن كانوا دعاة للتغييرفي مرحلة ما  وركبوا موجته مغرقين في انتهازية لا تخجل مما جنيناه في غهدتها من تفكك وتراخ  وانفلاش ... كان مخاض تلك السنوات عسيرا وهو في نظري آفة تنظيمنا السياسي اليوم ..لقد أصبح شعبنا في ظل هذه العهدة  بدون استقلالية وانزاح التنظيم السياسي عن تلك الثوابت المبدئية  فاسحا المجال لموجة الوصولية وممثليها الإنتهازيين ، تلك الأدوات التي تتحمل وزر ماجنيناه من كبوات في مسيرة التحرير الوطنية ؛ انزاح فاسحا المجال لسلطة الدولة على حساب الثورة .
4 ـ بين الثورة والدولة :
لقد ولدت إشكالية مفهومي الثورة الدولة منطقا جديدا في آليات العمل السياسي مشوب بالضبابية وضيق الأفق، وأصبح كل ماهو ثوري في الخانات الثانوية للحركة ونمت عقيليات جديدة مبنية على النفعية والإسترزاق وجني المكاسب الذاتية حتى باتت مظاهرها أمرا معيشا ومستساغا وأصبح البعض يحاول تأمين المستقبل عبر سلسلة من الإجراءات والمبادرات المغرفة في الذاتية مما فرض انكفاء للتنظيم  بتحين المناسبات ليسبع فيها ما أمكن من الحلل  الزاهية ، ويوشح المرحلة على غير عهد بوشاح الشكل على حساب الجوهر،والغاية تبرر الوسيلة ... .وباختزال ،لم يعد الهم تجذير الحركة وتقوية بنائها وتجديد أساليبها ـ رغم كل الأصوات المتعالية، ذات الحس الوطني والتي تروم خدمة القضية ـ  بل أصبح الهاجس الكسب المادي والتسلق السياسي ولو على حساب الثوابت. لقد وجد كثير من المناضلين أنفسهم مقحمين في أتون هذا التوجه ـ وعلى مستويات ـ لأنه لا يمكن  أن نتصور كيف يكون واقع الحال حين تغيب الأخلاقيات . وليس هذا تبريرا وإنما هو تقرير موضوعي لواقع فائم لاتدحضه الأحداث(وهناك أرقام نخجل عن ذكرها لممتلكات بعض الساسة وبالكثير من المواقع) . إن التغاضي عن تجسيد بعض نواقصنا ونبذ مثل هذه  السلوكات الخاطئة هو الذي قوض وهد أسس تنظيمنا الجبهة  . فمسؤلية المشاركة لمسالة الواقع وحل هذا الإشكال /المعضلة ذاك التخبط البيني مسؤولية جماعية وذلك من خلال طرح وطني ونقد صادق من داخل الحركة ولخدمتها؛ لكن المؤسف أن  التنظيم السياسي نفسه قد أسهم في تفشي هذه الظاهرة لما غيب الفعل الثوري ونمت على أنقاضه عقلية الإدارة . ..إن الدولة الصحراوية هي خيارنا الإستراتيجي لكن لابد للثورة أن تحتضن الدولة وتقدودها وأن يكون تقييم الأفراد مؤسسا على ضوابط وقواعد تنظيمية وأن يكون التنظيم السياسي بمثابة  الحلقة ا لتأهيية لمتطلبات الدولة / المستقبل  من اعداد كوادر..الخ والموجه لها ،رغم اقرارنا بصعوبة رسم حدود فاصلة  بين ماهو تنظيمي سياسي، واداري صرف . لقد أصبح الجميع في حيرة من أمره نتيجة غلو  وبيروقراطية الأسلوب الإداري المتبع في كنف الدولة!!!. 
5 ـ إصلاح أم تغيير ؟                                   
إن تعاقب الأحداث الوطنية ـ وما ميز بعضها من التردي ومظاهر الإنحراف والتشرذم والفساد ، بل التحلل من كل التزام اخلاقي يمليه واجب التعلق بالوطن والقضية ... يفرض مبدئيا المشاركة في هذا الحراك السياسي الذي بات يطفو على الساحة مما يسقط معه كل موقف حيادي . لكن لا بد ان تكون المنطلقات واضحة ومخلصة من أجل إرساء قواعد سليمة للعمل الديموقراطي بغية فرض الإصلاحات المرجوة داخل الحركة ؛ وهذا بدوره يقتضي فرضا لأساليب جديدة للعمل السياسي الذي لايزال محتكرا ويخضع لوصاية بعض الأدعياء من القائمين على التنظيم السياسي من الذين لا يرومون تغيير النظم والأساليب نحو الأفضل بما يتماشى مع متطلبات المرحلة ويقوي عضد الثورة ويحصن مكتسباتها ..إن موجبات التغيير قائمة في العقم السياسي المراوح مكانه ،والجمود الفكري المتمثل بهيمنة تلك النمطية الهجينة الرعناء التي لا تفتح المجال لحرية الرأي ولا تستسيغ الجدل كالذي يدورحاليا في الأوساط الصحراوية . إن التغيير آت لا محالة ومعضلتنا أننا لا ندري أننا بهذا التوجه نسهم في موات التجربة بعدما ترهلت .لا بد من مراجعة نقدية لها لفك القيود التي تكبل حركة الفعل الوطني المنظم .ولابد لمثل هذه المشاركة وحتى تكون موضوعية  بناءة وهادفة ترصد الحقائق كما هي دون زيف أو تجن بالإبتعاد عن الأحكام المسبقة  وأن تسوق الحقائق بمنتهى الشفافية  المجردة  أن تبتعد عن التجريح والسقوط في متاهات لا تخدم القضية الوطنية . يجب استهداف الأساليب التي شوشت وشوهت عملنا الوطني وابتسرت حدوده بمدى درجة الاستقطاب من هذا القطب أو ذاك !! ولو أن القطبية تبنى على وحدة في التصور والمنهج والأسلوب ؛ وهذا ماينعدم عندنا إذ يوحد المنطق الإنتهازي ذوي هذه الوجهة لا الإتجاه. لأن الوحدة وحدة مصالح وتوازنات دون الحاجة إلى تصنيف النوع..! إذ لا أخال مناضلينا قد أصيبوا جميعا بالغبن السياسي . لقد أصبح الكثيرون يحتمون تحت تلابيب الإدارة كمؤسسة عليا قي الدولة، ونحن لما نستكمل بعد مرحلة التحرير !! مؤسسة ينخرها الفساد والقيود البيروقراطية .كنا بهذا السلوك المج نفرض على المناضلين الإبتعاد وإلا أصبحوا جزءا من اللعبة الإدارية القذرة  ونستبدلهم بجيش من الإداريين والعناصر النفعية والإنتتهازية . لقد تمت الغلبة لثقافة الإدارة على حس وفعل المشاركة الثورية واستقوت المؤسسة مماأحدث فجوات في العمل التنظيمي  ..لقد أحدثت هذه الصرعة خلخلة في المفاهيم حتى أضحى المناضل يعير بنضاليته! فعوض أن تكون للتنظيم السياسي هيبته وقدسيته أصبح مقودا يخبو في التقارير ويبرز في المناسبات ذات النمط المكرور والتي تجتر نفس الأساليب.....................
لقد أصبح العمل التنظيمي موبوءا رغم كل المساحيق المنساباتية التي تذر بين وقت وآخر في بعض الوقفات السياسية من ندوات ومؤتمرات وغيرها ...إذ عرفت السنوات اللأخيرة غزلا سياسيا موشى بالنفاق والتزلف والتجاذبات والتحالفات بين بعض الزمر؛ مما كبل معه العمل التنظيمي وأفرغه من محتواه و هو الذي كان يعاني اصلا ..لقد فرض الوضع عزوفا تاما إن لم نقل انصرافا عن كل ماهو تنظيمي . ويتحمل المسؤلية في ذلك أطراف اللعبة السياسية الذين كان يملي عليهم نهمهم وتوقهم للسلطة التضحية بكل المبادئ المثلى للحركة . وكانت المصلحة الذاتية  أحيانا أكبر من الوطن إلى درجةالإرتماء في أحضان العدوالمغربي..لقد ولد هذا المناخ انزياحا بالثورة نحو منحى تنازلي خطير له انعكاساته المستقبلية الوخيمة حتى في كنف الدولة الصحراوية المستقلة..لأنه يعكس مستوى الإنحطاط السياسي والتشرذم الذي لا يخدم قضيتنا والتي تفترض درجة من الوئام والتناغم المبني على احترام الثوابت والأخلاقيات .. لقد استقوت تلك الإصطراعات السياسية  في فترات ماـ  خاصة منذ أواخر الثمانينات ـ وغيبت الأداة الثورية وفتح المجال لدائرة الإستقطاب السياسي والتحريض والدعاية ...ولم تكن دعوات المعاندة ولا المساندة كلتيهما تحمل برنامجا أو تصورا واضحا يثلج صدورنا ويقينا غيل الإرتماء في أحضان هذه الكتلة أو تلك ..كان الإصطراع بمثابة النط في في رقعة مربعاتها توحدها المقاييس وتفرقها الألوان والأبطال يعدون في ذات الإتجاه وبالخلاصة ظاهرها اختلاف وباطنها ائتلاف . إن القاعدة الشعبية لا تنخدع بمثل هذه التمظهرات التي ينط أصحابها في كل المربعات مستحدثين كل مرة تخريجة جديدة مغازلين القاعدة بالتبرم عن الماضي وأخطائه . لابد من الإقرار بأن الإعتراف بالخطإ فضيلة لكن ما لم يتم الترفع عنه بالإنصياع إلى الإرادة الشعبية ومطالبها الراغبة في الإصلاح السياسي والإداري ومتعلقاتهما و مالم يتم الإحتكام لمبادئ الثورة سيظل أدعياء هذا التوجه كمن يرتدي برقعا شفافا يبدوا القابعون وراءه مخادعين أنفسهم لا غير !!! فكل دعوة خارجة عن سياق الفعل الثوري ومناهضة الإحتلال   مرفوضة مهما كانت تلاوينها . حبذا لو أن دعاة الحقبة الجديدة أحسوا بنوع من وخز الضمير ونكران الذات  وتأففوا عن الجري في هذا المنحى الإنحداري ؛ مماكان على شاكلة تثبيت المصالح المادية والسلطوية أو تلك التمظهرات التي يعكسها سلوك المحافظة على بعض الإمتيازات الجماعية ك "التوازنات" القبلية والجهوية وتلك الموشاة بالطابع العشائري المتمدد سرطانيا  في جسم الدولة لأننا أصبحنا في زمن تكون فيه الغلبة للمتمددين الذين بإمكانهم اكتساح اكبر للمربعات في سباق محموم مع الزمن . وأظن ان ضمانات المستقبل تكمن في الإستجابة لدعوات التغييروالإصلاح لأن الوطن مازال جريحا والمواطن كسيرا ..ولا شك أن اعتماد التحاليل الصورية يوقع في مثل هذه المنزلقات ولنا العظة في "صناديق العودة"..اإن الثورة الصحراوية تحتاج لإعادة بنائها تنظيميا وفق أسس جديدة فنحن مقبلون غلى تحديات كبيرة فبل وبعد الإستقلال. وإذا لم يتم تحصينها فإن المحاذير كثيرة ..لقد تطور شعبنا سياسيا فلم تعد تقنعه الشعارات وإنما البرامج الميدانية ،المستنبطة من  وحي التجربة ومتطلبات المرحلة وفق تصورات واضحة وبإشراك القاعدة في وضع ملامحها الآنية والمستقبلية إذ لم تعد مقبولة سياسة الإملاء والتسلط بكل أشكاله ..إن هيمنة التيار النمطي المتمسك بخطه التقليدي وبأدران الماضي كبح كل محاولات الإصلاح من الداخل وعرقل امكانية احداث أية طفرة نوعية نحو إعادة البناء والمراجعة وكذا المحاسبة وأصبحنا في أزمنة " العام لمحالي" إذ الكثير من " المسؤولين لا يحجمهم عقال وليس للتنظيم السياسي أية سلطة فعلية للحد من تجاوزاتهم وأحيانا تتم ترقية البعض ولو كان الجرم مخجلا ومشينا أخلاقيا عوض أن يقال أو يستقيل كما في المجتمعات الراقية (دون الدخول في التفاصيل).إذن نحن أمام مرحلة فاصلة تقتضي منا الكثير من اليقظة حفاظا على سمعة التنظيم وهيبته وتجاوبا مع مستويات تطور النضج السياسي لدى شعبنا وتأسيسا لمنظور الدولة المستقلة ..
وأرى في ذات الإتجاه النأي عن إقحام مناضلينا بالمناطق المحتلة في حمى التجاذبات والإستقطابات السياسية مما له من انعكاسات سلبية على خططهم وبرامجهم ف"أهل مكة أدرى بشعابها" كما لابد أن تكون قنوات النسيق السياسي تحظى بالكثير من المصداقية والحيادية وأن ترتقي عن الصورة الإنتقائية في التعامل مع المناضلين . إذ الهم واحد ومشترك ..فمناضلونا بالداخل تحركهم شروط الواقع المعيش في ظل التماس مع آلة الإحتلال مما يتطلب الكف عن سياسات الإملاء والفوقية المتبعة من البعض ..
إن التغيير المنشود ليس عملا انقلابيا على ثوابت الحركة ومبادئها؛ وإنما هو الدعوة إلى عودة تنظيمية نحو الذات لإصلاح  تلك الإختلالات التنظيمية التي بات ينخرها السوس فأوغرت في النفوس امتعاضا من واقع الجمودالفكري والثبوتية السياسية المحافظة . آخذين بعين الإعتبار المناخ الجديد الذي تولد عن مخطط السلام وأسهم هو الآخر وفي حدود معيينة في خلخلة بعض البنيات سواء على مستوى التفكير أوالممارسة تنظيميا وسياسيا ومن ثم على مستوى الأفراد والجماعات. فلا يختلف إثنان اليوم بأن هذا المسلسل وحلقاته الفارغة قد أحدث صدمة وبلبلة قلبت مجموعة من الموازين ،وأدخلنا في دوامة سياسية لاطائل من ورائها. إذ أنه لا يعقل الإستمرار في هذا المسار إلى ما لا نهاية في ظل تعنت الغزاة وصلفهم ..وهنا تجد بعض الإحتجاجات والدعوات الوطنية مقامها في ضرورة الإسراع بمثل هذا الإصلاح؛ وهو ما يقتضي تأطيرها وإقحامها في الميدان وإشراكها  في إرساء معالم مرحلة جديدة تتسم بتفهم الدعوات النقدية الهادفة وعدم استبعاد أو إقصاء كل مسعى وطني  يروم القطيعة مع تراكمات الماضي وأساليبه العتيقة ؛ و التي لم تعد مؤاتية كونها لا تستشرف الواقع الجديد والمتجدد، كما لا تتماشى مع  المبادئ/ الأصل لتنظيمنا السياسي  .
آن الأوان لأن نعيد للتنظيم إشعاعه وللقضية توهجها .وما من شك أن الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب ...كصرح ومكسب وطني، تبقى الأداة القادرة على إعادة الأمور إلى نصابها إذا صدقت الإرادات والنوايا.. فهي الضامن لإستقلالنا الوطني .. والصحراويون جميعهم ـ مهما تموقعوا ـ موكول عليهم الإسهام في معركة تقويم وتقوية الحركة بما يخدم أهدافنا في
الحرية والإستقلال ..
* ـ المحجوب النعمة :
ـ معتقل سياسي سابق .

ـ رئيس الدائرة السياسية بوزارة الإعلام الصحراوية .
ـ عضو المكتب التنفيذي لجمعية أولياء المعتقلين والمفقودين الصحراويين.
ـ أستاذ اللغة العربية بالمناطق المحتلة.
ـ عضو المكتب التنفيذي لجمعية المهاجرين الصحراويين ب سيوداد ريال.
- صحفي وكاتب سابق بمجلة الإستفتاء و الخنقة و 20 ماي.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
electronic cigarette review