29‏/1‏/2013

لقاء أيقظ حلما

 محمد حسنة الطالب
  التقيا صدفة بواحد من مخيمات اللاجئين الصحراويين بالجزائر ، وكانت حرارة عناقهما تستقطب كل ذكرياتهما لتحيى على بر التذكر والتطلع إلى ما يصبو إليه كل صحراوي غيور ، فأزهر في مخيلتهما عهد الطفولة وسنوات الدراسة ، وأشرقت في ذاكرتهما شمس أيام قضياها معا مع رفاق الدرب والسلاح ، ووصل بهما المطاف إلى تلك اللحظة المحيرة التي كان فيها اللقاء ، والتي لولا قيمة الصداقة والأخوة التي جمعتهما منذ الصغر لذهبت التقاسيم وكل الملامح والخواطر أدراج الرياح ، و لتاه كل منهما عن الآخر إلى الأبد ... أمعن كل منهما النظر في وجه صاحبه وبدءا ينبشان بأرشيف صداقة دامت لزمن طويل تخللته المآسي والنكبات تارة ، والأفراح والأتراح تارة أخرى ، لقد مكنتهما إرادتهما وعهدهما لبعضهما من استعادة كل شئ دون ترتيب مسبق ، ورغما عن قدر الفراق الطويل ، وآفة النسيان .
     نظر سعيد إلى المحبوب وقال : سوف لن يسعفنا الحال هنا لسرد وتذكر كل شئ ، فهيا بنا إلى الخيمة نقيم الشاي ولتلقي التحية على العائلة ولترتاح معنا هذه الليلة على الأقل ...
    جال بخاطر المحبوب مكان ألفه في زمن ذهبي وقد أصبح هذا المكان دارسا ، وحتى السبيل الذي كان يسلكه إليه باستمرار أصبح باليا ، فلم يعد يتذكر الموقع ولا موضع أقدامه في ما أصبح عليه المكان من اكتظاظ وازدحام .
    سار سعيد يمشي الهوينى يستثمر الطريق الطويل بعض الشئ ، بسيل من المجاملات والنوادر دون أن يغفل الثناء في كل مرة على زمن لم يعلو فيه صوت على صوت الرصاص ، ولم يطغى فيه هدف على نيل الاستقلال ورجوع الشعب إلى دياره .
    سار معه المحبوب وقد انتابه دوار جعل الواقع يبدو أمامه ككوم رماد ، لا شئ فيه يؤشر لذكرى أو يهدي إلى هدف ، أصغي إلى رفيقه ومسح على عينيه ونظر أمامه فوجد نفسه كمن يسير في الضباب البارد وملابسه رثة والدفء مقصده ومبتغاه ، انتابته قشعريرة وخجل من نفسه كونه قصر في زيارة تلك العائلة على مدى سنوات وسنوات ... أسف على الزمن الغادر الذي فعل به فعلته وساقه في هذا التيه اللعين ، حتى نسي عائلة الشهيد ، تلك العائلة التي قاسمت أهله السراء والضراء ، واشتركت معهم رغيف الخبز وقليل الماء ، بل وافترشت معهم الأرض والتحفت معهم السماء بعد أن قصفت جيرتهم بالنابالم والفسفور ذات يوم ...
    يلتفت سعيد بعد أن رأى المحبوب شاردا متأخرا عنه بخطوات ، أخذ يتحسس شفتيه في حيرة ، وبعد هنيهة وتردد كبير قال : هل طرأ عليك شئ يالمحبوب ...؟ ألم تحسم أمرك بعد ...؟ ثم أردف : إذا كان لديك أمر هام فلا بأس في أن تأتينا في وقت آخر ... كان كل سؤال طرحه سعيد يمثل صفعة للمحبوب وينبئه بما كان يتربص به طيلة سنوات اللا حرب واللا سلم  ، ويزداد تألما وحسرة في تلك اللحظات العصيبة كونه وجد نفسه في موقف حرج تتقاذفه فيه التجاذبات والميول التي تكاد أن تسلبه غرارة نفسه ، فما بين الأمس واليوم تغير كل شئ ... ، وما كان من المحبوب إلا أن يرد على صاحبه بعد أن استدرك أمره وضبط وجهته : هل تظن يا سعيد أن مثل هذه الفرص يضيع مهما كان الواقع رماديا ؟ ألا تعرف أن اللون الرمادي هو خليط بين اللون الأبيض والأسود؟ ألا تعرف أننا كنا نعيش في الظلام قبل أن يكون وضعنا رماديا ؟ ألا تعرف أنه من خلال هذا التحول يمكن أن يصير المستقبل ناصعا مضيئا لا رماد ولا سواد فيه ؟ يردف المحبوب قائلا : أنا لست يائسا ولا متشائما فبعد العسر يسرا .
     اتضح لسعيد من كلام صاحبه أنه قاص في الذكريات وتوغل في كل تفاصيلها وحيثياتها ، وإلا ما كان ليحث الخطى للحاق به ، احتضنه وربت على كتفيه وطلب منه أن يتماسك على الأقل أمام والدته الشديدة التأثر ...
     أكملا بقية الطريق ودلفا إلى الخيمة ، كانت فاطمة الغالية تغط في نوم عميق في الوقت الذي تحلق الأولاد والبنات حول المحبوب والشوق يعتريهم في نشوة غامرة جعلتهم يتجاذبون زائرهم الذي لا تسعه كل عبارات المحبة والثناء ... فظلوا وباتوا متمسكين به لا يرضى أي منهم تركه للآخر ، وفي أثناء تلك الفرحة العارمة التي سادها ضجيج حذر تسربت اليقظة إلى عيون الغالية شيئا فشيئا ، وبهدوء أخذت تحكم طرف لحافها على رأسها مرددة بصوت يغالبه النعاس : أنتوما أمالكم ، أياك لباس ؟ صمتوا جميعا والابتسامة لم تفارق ثغورهم ، وما كان من سعيد إلا أن يتكلم خوفا من أن يثير استغرابها هذا الصمت المفاجئ ، لأنه يعرف قيمة الزائر عند والدته وما سينجر عن مفاجئتها برؤيته ، فابتلع ريقه وقال بأسلوب تمهيدي :
     ـ الغالية أنت تعرفي أهل عبد أسلام ؟
     ـ واللاهي ياوني !!! أمالهم ؟
     ـ ريحتهم دخلو أتراب !؟
     التفتت الغالية وما إن رأت المحبوب حتى شعرت بأن ما في الخيمة يدور حولها ، فتماسكت حتى استعادت توازنها ، وأطلقت زغرودة تردد صداها في كل الأرجاء ، ثم تنهدت بنفس طويل تردد بصوت متقطع ودموع الفرحة تنساب على خديها : هذا لستقلال ... "ياربي لا عكبتها كشرة" ، فاحتضنت المحبوب بحرقة الشوق وطول الانتظار تقبل جبينه وتتنشق ريح عطره الجميل الذي ينعش في النفس حب الحياة وقيمة الوجود ، ولسانها لا زال يردف : أحلمت بيه يا مرحبة ماهو أبعيد يا ويلو ... اللا نحن نبغوه باط أوهو غالي علينا ...


0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
electronic cigarette review